الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى. والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها. فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم..إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولاً، ثم في الأرض جميعاً، وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته. وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه.. والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولاً؛ وعلى البشرية كلها أخيراً.وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديماً- وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثاً- أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إذا اهتدى هو بذاته- ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض- إذا هي اهتدت بذاتها- وضل الناس من حولها.إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان- وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم.ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا علكيم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.. وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه».وهكذا صحح الخليفة الأول- رضوان الله عليه- ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة. ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق. فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه!وكلا والله! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد. ولا يصلح إلا بعمل وكفاح. ولابد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس، وإقامة الناس عليها.. لابد من جهد. بالحسنى حين يكون الضالون أفراداً ضالين، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة. وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى؛ وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم.وبعد ذلك- لا قبله- تسقط التبعة عن الذين آمنوا. وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه:{إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون}.والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض، والبعد عن المجتمع. والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله.{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذن لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم.الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذن لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين}..وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث: أن على من يحس بدنو أجله، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين. فأما إذا كان ضارباً في الأرض، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين.فإن ارتاب المسلمون- أو ارتاب أهل الميت- في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة- حسب عقيدتهما- ليحلفا بالله، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر، ولو كان ذا قربى، ولا يكتمان شيئاً مما استحفظا عليه.. وإلا كانا من الآثمين.. وبذلك تنفذ شهادتهما.فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة. قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته، من الذين وقع عليهم هذا الإثم، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين. وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة. وبذلك تبطل شهادة الأولين، وتنفذ الشهادة الثانية.ثم يقول النص: إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق؛ أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين، مما يحملهما على تحري الحق.{ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم}.وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله، ومراقبته وخشيته، والطاعة لأوامره، لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه، إلى خير ولا إلى هدى:{واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين}..قال القرطبي في تفسيره عن سبب نزول هذه الآيات الثلاث:... ولا أعلم خلافاً أن هذه الآيات الثلاث نزلت بسبب تميم الداري، وعدي بن بدّاء روي البخاري والدارقُطني وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي بن بداء، يختلفان إلى مكة؛ فخرج معهما فتى من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله، وحبسا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب. فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كتمتما ولا اطلعتما». ثم وجد الجام بمكة. فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم. فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا. قال فأخذ الجام. وفيهم نزلت هذه الآية... لفظ الدارقطني.وواضح أن لطبيعة المجتمع الذي نزلت هذه الأحكام لتنظيمه دخلا في شكل الإجراءات.وربما في طبيعة هذه الإجراءات. فالإشهاد والائتمان على هذا النحو. ثم الحلف بالله في مجتمع بعد الصلاة. لاستجاشة الوجدان الديني، والتحرج كذلك من الفضيحة في المجتمع عند ظهور الكذب والخيانة.. كلها تشي بسمات مجتمع خاص. تفي بحاجاته وملابساته هذه الإجراءات.ولقد تملك المجتمعات اليوم وسائل أخرى للإثبات، وأشكالاً أخرى من الإجراءات، كالكتابة والتسجيل والإيداع في المصارف.. وما إليها..ولكن. أو فَقدَ هذا النص قدرته على العمل في المجتمعات البشرية؟إننا كثيراً ما نخدع ببيئة معينة، فنظن أن بعض التشريعات وبعض الإجراءات قد فقدت فاعليتها، ولم تعد لها ضرورة، وأنها من مخلفات مجتمعات مضى زمنها! لأن البشرية استجدّت وسائل أخرى!أجل كثيراً ما نخدع فننسى أن هذا الدين جاء للبشرية جميعاً، في كل أقطارها، وفي كل أعصارها. وأن كثرة ضخمة من هذه البشرية اليوم ما تزال بدائية أو متدرجة من البداوة. وأنها في حاجة إلى أحكام وإجراءات تواكب حاجاتها في جميع أشكالها وأطوارها، وأنها تجد في هذا الدين ما يلبي هذه الحاجات في كل حالة. وأنها حين ترتقي من طور إلى طور تجد في هذا الدين كفايتها كذلك بنفس النسبة؛ وتجد في شريعته ما يلبي حاجاتها الحاضرة، ثم يرتقي بها إلى تلبية حاجاتها المتطورة.. وأن هذه معجزة هذا الدين ومعجزة شريعته؛ وآية أنه من عند الله، وأنها من اختياره سبحانه.على أننا نخدع كذلك مرة أخرى حين ننسى الضرورات التي يقع فيها الأفراد من البيئات التي تجاوزت هذه الأطوار؛ والتي يسعفهم فيها يسر هذه الشريعة وشمولها، ووسائل هذا الدين المعدة للعمل في كل بيئة وفي كل حالة. في البدو والحضر. في الصحراء والغابة. لأنه دين البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها.. وتلك أيضاً إحدى معجزاته الكبرى.إننا نخدع حين نتصور أننا- نحن البشر- أبصر بالخلق من رب الخلق.. فتردنا الوقائع إلى التواضع! وما أولانا أن نتذكر قبل أن تصدمنا الأحداث. وأن نعرف أدب البشر في حق خالق البشر.. أدب العبيد في حق رب العبيد.. لو كنا نتذكر ونعرف، ونثوب..
|